أصل العدالـة
بالنسبة للذين يعتقدون بنظرية التطور، فإن وجود العدالة لغز محير. ما هي الميزة البيولوجية التي ينالها من يتعامل بثقة وتعاون مع أفراد لا علاقة له بهم؟ وعندما تكون هذه اللقاءات مع غرباء، وتحدث لمرة واحدة، فإن شرح لماذا لا يختار البشر التصرف بأنانية يصبح أمراً أصعب. الجواب التقليدي هو أن الناس يولدون و لديهم فطرة نفسية-اجتماعية تتلائم مع حياة أجدادهم في المجتمعات الصغيرة من العصر الحجري القديم. أي أن العدالة، بعبارة أخرى ، هي من بقايا عملية تطور البشر ومن تلك اللحظة التي كانت فيها معظم العلاقات الانسانية محصورة مع أقارب الفرد، وبالتالي كان لديهم مصلحة جينية مشتركة، مما يعني عموماً أنه لا يوجد معنى للغش.
المشكلة في هذه الفكرة هو أن مفهوم العدالة يتفاوت بشدة حسب المجتمع الذي يأتي منه، و هذا الأمر لا يتوافق مع فكرة أن العدالة هي مجرد أداة نفسية تطورت مع الزمن. لذلك، يقترح آخرون أن العدالة هي مفهوم اجتماعي ظهر في فترة قريبة استجابة للتغيرات الثقافية ، مثل تطور التجارة. ويقول بعض آخرون أن العدالة ارتبطت مع بزوغ الديانات المنظمة.
جوزيف هنريك من جامعة كولومبيا البريطانية قام مع زملاء له باختبار هذه الفرضيات المتضاربة. فقد اعتبروا أنه إذا كانت مفاهيم العدالة فعلاً متلائمة مع العصر الحجري القديم، فإن الاختلافات بين هذه المفاهيم بين المناطق الجغرافية المختلفة يجب أن تكون عشوائية. أما إذا كانت العدالة أداة مرتبطة بالثقافة البشرية، فإنها ستختلف بشكل منهجي بما يتوافق مع بعض جوانب المجتمع. في دراسة نشرت مؤخرا في مجلة ساينس ، نظر الدكتور هنريك وفريقه في العلاقة بين مفهومي العدل واثنين من الظواهر الاجتماعية : درجة التكامل الاقتصادي للمجتمع، و درجة تدين الأفراد ضمنه.
قام الدكتور هنريك بدراسته على 2148 متطوعاً من 15 مجتمعاً معاصراً صغير الحجم. هذه المجتمعات تضمنت مجتمع دولجان (صيادون في سيبيريا)، مجتمع هادزا (بدو رحل في تنزانيا) ومجتمع سانكويناجا (صيادو سمك في كولومبيا )
أولا ، طلب فريق البحث من المتطوعين أداء سلسلة من الألعاب لقياس مفاهيمهم عن العدالة. واحدة من هذه الالعاب تسمى لعبة الدكتاتور. في هذه اللعبة، يتم إعطاء مبلغ من المال إلى اثنين من اللاعبين ( لا يجتمعان من خلال اللعبة)، على واحد منهما أن يقسم المال و يعطي جزء منه إلى اللاعب الآخر دون أن يلتقيه. ليست هذه لعبة بكل معنى الكلمة، لكنها تعطي مقياساً جيداً عن شعور العدالة لدى اللاعب الأول، باعتبار أن لديه السلطة لأن يكون غير عادل بالمقدار الذي يرغبه.
ثم سأل الباحثون المشاركين في البحث أن يلعبوا لعبة أخرى أقل وضوحاً. في هذه اللعبة، لدى اللاعب الثاني فرصة ليرفض المبلغ الذي قدمه له اللاعب الأول، وفي هذه الحالة لا يحصل أي من اللاعبين على أي شيء. و لكن على اللاعب الثاني هنا أن يحدد المبلغ الذي سيقبله( مع هامش للتفاوت 10%) قبل أن يسمع ما عرضه عليه اللاعب الأول فعلاً. وهذا يقيس درجة الاستعداد لفرض عقوبة، حتى لو كانت العقوبة مكلفة بالنسبة لفارضها. و في لعبة أخرى ضمن البحث قاس الباحثون تفاعل اللاعبين مع أطراف ثالثة.
بعد قياس مفاهيم العدالة السائدة في كل من هذه المجتمعات المدروسة، قاس الباحثون الدرجة التي تلعبها الأسواق في كل منها. وقد تم ذلك من خلال حساب النسبة المئوية في كل عائلة للسعرات الحرارية التي تم شراؤها من السوق، بدلا من أن تزرعها الأسرة أو تصيدها. كما تم سؤال المتطوعين أيضاً عن اعتناقهم لديانة كونية )أو إن كانت ديانتهم قبلية(.
نتائج البحث تؤيد التفسير الثقافي للعدالة- أو على الأقل تؤكد وجود مستويات متفاوتة من العدالة في المجتمعات المختلفة – في الواقع ، فإن المجتمعات التي كانت تشبه بدرجة أكبر حياة العصر الحجري القديم كما يجمع على وصفها علماء الأنثروبولوجيا (صيد وجمع ثمار ، و قدر يسير و محدود من التجارة ) كانت هي المجتمعات التي لم تكن للعدالة فيها أهمية كبيرة. فالناس الذين يعيشون في مجتمعات لا تلعب فيها الأسواق دوراً كبيراً يكونون قليلي الاهتمام بالعدالة أو بمعاقبة عدم العدالة في الصفقات. حيث تزداد مفاهيم العدالة بشكل مطرد مع ازدياد الدور الذي تلعبه الأسواق في المجتمع ). كما أن الناس من المجتمعات المتكاملة اقتصاديا بدرجة أكبر هم أكثر ميلا إلى معاقبة أولئك الذين لا يتقيدون بقواعد الانصاف، حتى إذا كان ذلك يرتب عليهم تكلفة.
بالنسبة للتقدميين، فهذه النتيجة مريحة إلى حد كبير. إنها تشير إلى أن الناس ، حتى إن لم يصلوا إلى حد الكمال، فهم على الأقل مطواعين بشكل إيجابي من الناحية الأخلاقية. إذا كان التكامل الاقتصادي هو القوة الدافعة للعدالة، فقد يكون من المقبول النظر إلى العدالة على أنها شيء يشبه نوعاً من التكنولوجيا. كما أصبحت المجتمعات أكثر تعقيدا، فإن المجتمعات التي أنشأت أنظمة للصرف الصحي والنقل والطاقة و ما شابه ذلك كانت أكثر نجاحا من تلك التي لم تفعل ذلك. و قد تكون فكرة الانصاف هي النظام غير الملموس المعادل لهذه النظم المادية.
و لكن الدكتور هنريك أيضا وجد أن روح العدالة في مجتمع ما ترتبط بدرجة مشاركته في الأديان الكونية. المشاركة في هذه الأديان أدت إلى ارتفاع المبالغ المقدمة في لعبة الدكتاتور بمقدار عشر نقاط مئوية من تلك المبالغ المقدمة من غير المشاركين.
الديانات الكونية مثل المسيحية، تحتوي قوانيناً أخلاقية وآلهة كلية العلم تحكم على تصرفات الأفراد، و ايماناً بوجود الجنة و الجحيم. لذلك يبدو متوقعاً أن هذه الديانات ستعزز من مفهوم العدالة بين معتنقيها، لذلك فنتائج البحث منطقية. من وجهة نظر اقتصادية إذاً، فهذه الأديان التي تحكم على سلوك الفرد هي في الواقع قوة تقدمية. وهذا قد يفسر السبب في أن الكثير من المجتمعات التي تبنت هذه الأديان كانت ناجحة، وبالتالي لماذا أصبحت مثل هذه المعتقدات أدياناً كونية في المقام الأول.
www.syrian.host
—————————-
المقالة الأصلية عن “الايكونومست”، ترجمة د. شادي مكرم حجازي. / موقع “كلنا شركاء” المحتجب عن الانترنت.