الكاتب : علاء الدين الخطيب
أذكر مرة وأنا في بداية المرحلة الجامعية، أن حادثة حصلت في بلدتي لعائلة فقيرة وغير متعلمة، فكان لسرعة تصرف الطبيب أحمد وذكائه فضل كبير في إنقاذ طفل من موت محتم، وقد كان هذا الطبيب متخصصا في الجراحة ونال احترام ومحبة كل الأهالي بسبب دماثة خلقه وتفهمه لأحوال الناس؛ إلى أن كانت مناسبة ما لا أذكرها الآن، واجتمع الرجال كما هي العادة يتحدثون ويسمعون، إلى أن دخل الدكتور أحمد، فلقي ترحيبا أكثر مِن كل مَن حضر قبله، وكان يستحقه؛ ثم بعد دقائق دخل على المجلس شيخ المسجد، فكان الترحيب والاحترام والتبرك أكثر بكثير، وحتى الدكتور أحمد أخلى له صدارة المجلس، وجلس الجميع وكأن على رؤوسهم الطير يسمعون للشيخ، والشيخ يعيد قصصا وأدعية سمعها الأهالي منه عشرات وربما مئات المرات، فهو خطيب الجامع منذ 30 سنة؛ سألت نفسي وأسررت بسؤالي لأصدقائي: “ماذا قدم هذا الشيخ أو غيره ليحظى بهذا التكريم، مقابل هذا الطبيب؟ وكم سنة درس؟”؛ ما كان لي وقتها طبعا أن أعلن احتجاجي أو سؤالي، فحتى الطبيب كان سيشترك في توبيخي وربما طردي من المجلس.
لا أريد أن أنكر أن هناك شيوخا أو فقهاء درسوا وعملوا، لكن احصائيا ماذا قدموا كلهم خلال 800 سنة، من يوم مات ابن خلدون آخر علماء المسلمين إلى اليوم. وماذا قدم شيخ هذا الحي أو ذاك، أو حتى مفتي الديار للناس خلال سبعين سنة من استقلال بلادنا؟ على الأقل الطبيب والمهندس والمعلم والمحامي وأيضا عامل البناء وصاحب الدكان ساهموا في بناء مدرسة، ومعالجة مريض، ورصف طريق، لماذا نضع رجل الدين فوق كل هؤلاء؟ ألا يقولون أن لا كهانة ولا رجال دين في الإسلام، فماذا نسمي ذلك؟
وعلى مستوى أعم، ومن يوم اخترع الغرب والشرق الآسيوي الأقمار الصناعية والأقنية التلفزيونية، لماذا يحظى العديد من الشيوخ وما يسمونه الآن الدعاة على نسب مشاهدة تنافس أشهر برامج التسلية والغناء، وصار بزنس “الفضائية الدينية” مربحا جدا؟
المشكلة أكثر تعقيدا وإعاقة من ظاهر هذه الأمثلة البسيطة، التي قد يراها البعض ليست ذات بال، إنها تتعلق بسلم الأولويات الاجتماعية والمؤسساتية والتدريسية، ضمن كيان أي مجتمع يطمح لتأسيس دولة عصرية مستقرة. المشكلة تعود بجذورها إلى ثقافة قديمة تم نشرها من عصر حروب الفرنجة والتتار والمغول، وأدت فيما أدت لتوقف الحركة العلمية التي ازدهرت خلال العصر العباسي الوسيط؛ إنها ثقافة الاستهتار بالعلم والعمل، والتركيز على القوة والسلطة والدين.
مع بدايات القرن العشرين، ظهر سؤال “لماذا نحن متخلفون وهم متقدمون؟”، سؤال طرحه المثقفون والشيوخ، وخاضوا به وحاولوا معرفة الأسباب. لكن انبعاث القومية العربية السياسية، والإسلام السياسي حارب هذا السؤال، لأن التيارين بنيا أنفسهما وقوتهما وشعبويتهما على “الفخر” واحتاجا إلى نفخ الغرور في المواطن العادي، كي لا يوجه سؤال “لماذا لا نصنع إبرة الخياطة في بلادنا؟”؛ فأقنعه الطرفان أنه ضحية مؤامرة كبرى كونية، وأن ماضيه البعيد كان ماضيا ذهبيا ناصع البياض، محشوا بالمجد والعزة، وبما أنه ضحية مؤامرة فهو أفضل من ذلك “الغربي المستعمر الامبريالي الصهيوني” او من ذلك “الصليبي الكافر اليهودي”، وأن سبيل التقدم هو “النضال” أو “الجهاد”، والانصياع للقائد أو الأمير، للمنظر الأيدلوجي أو الشيخ.
التيار القومي العربي انهار بريقه بشكل كبير في نكسة حزيران 1967، ثم انهار تماما على أيدي حافظ الأسد وصدام حسين المليئتين بالدم والظلم. لكن التيار الإسلامي السياسي تابع طريقه ضمن نفس المنهج، وكان اقوى تأثيرا وسيطرة، وطبعا مع العاطفية العميقة المترافقة مع الشعور الديني، من يجرؤ أن يعارض شعارهم المستقى من مقولة “الله أعزنا بالإسلام”، و”الحمد لله إنا مسلمون” حتى لو كنا عشرات الملايين نموت فقرا، ونزحف تحت ظلم الحاكم، ولا ننال أبسط حقوقنا، لكن نبقى أفضل من ذاك الألماني والكوري والياباني والأميركي والصيني الكفار.
من الطبيعي أن يقول كل مؤمن شكرا لله على إيماني وديني، لكن ليس من الطبيعي ولا المنطقي أن يكتفي المؤمن بدينه ليأكل ويشرب ويلبس ويتعالج ويبني ويسافر. وهنا يجيب كثير من الإسلاميين السياسيين فورا بالهروب إلى التاريخ وابن سينا والرازي والكندي (متجاهلين أنهم مُكفَّرون او مُزندَقون عند شيوخ كبار)، ويقلبون النقاش إلى الكلام في الإسلام كدين، واتهام الآخر “بالحقد على الإسلام” مستميلين عواطف المستمع المؤمن، لكنهم يهربون من السؤال الأساسي “لماذا علمتم الناس أنتم وغالبية جدودكم من شيوخ طوال 800 سنة الاستخفاف بالعلم؟”
هذا الاستخفاف نراه بشكل واضح عندما تسمع نقاشات الناس العاديين المنساقين خلف الإسلامية السياسية، يعتبرون أن صناعة السيارة والكومبيوتر والدواء تحصيل حاصل لتأسيس خلافتهم، أو لتوحيد مليار ونصف مسلم. والمفاجئ أن بينهم مهندسون وأطباء وفيزيائيون يعرفون تماما أن التقدم العلمي والتقني ليس نتيجة حتمية للمال وللعدد.
والمفجع أكثر يوم تريد نقاش قضية ما طبية أو هندسية أو سياسية أو اجتماعية، فكل كلام المتخصصين والعلماء يذهب هباء منثورا أمام كلام الشيخ، لأن الشيخ يتكلم باسم الدين، وبالتالي باسم الله، حتى لو ادعى أنه ليس بكاهن. ولعل صفحات وبرامج الفتاوى هي خير دليل على هذا الاستهتار بالعلم.
كذلك فإن توفر التقنية لشرائها بالمال، حول جهاز الموبايل إلى أمر عادي، والناس تفترض أن لا مشقة بالحصول عليه، وقد علمهم شيوخهم أن الأهم هو وضع الآذان على رنته، واستخدام منبهه لتحديد أوقات الصلاة، قبل السؤال كيف نصنعه. لا يوجد عاقل طبعا ضد حرية الناس بدينها وعبادتها، بل يجب احترام ذلك كحق إنساني، لكن يوم تقف غالبية السلطة الدينية والتيارات السياسية الإسلامية أمام عصرنة سلم الأوليات في المجتمع، وممانعة منح العلوم والمنطق والفلسفة وحقوق الإنسان حصة أكبر من تدريس الدين، ويستمر الشيوخ-الكهان في تقسيم المجتمع إلى كافر ومؤمن، والتدخل بكل صغيرة وكبيرة في بنية الدولة والمجتمع، وتحويل التدين إلى مظاهر وطقوس ودروشة، وإقناع الناس أن العلم نتيجة للدين، فهذا لم يعد دينا وإيمانا، بل صراع على السلطة والمرابح.
فهذا الموبايل مثلا الذي يمكن أن يشتريه الإنسان بمئة دولار، يحوي رقاقات الكترونية Chip تحوي ملايين الدارات الالكترونية بما يسمى الدارات المتكاملة، وهي أساس عمل هذا الموبايل “العجائبي”؛ هذه الرقاقات الالكترونية لا يتم تصنيعها سوى في خمس بلاد: الولايات المتحدة الأميركية، كوريا الجنوبية، اليابان، تايوان، وأوروبا، وأكبر المنتجين هم الأميركيون والكوريون؛ أما الشرائح الأكثر تعقيدا، فهي محصورة ببضعة شركات فقط بين الأميركي والكوري، حتى الصين التي تقفز كل يوم في التطور العلمي لا تملك هذه التقنية.
هذا المثال عن الرقاقة الإلكترونية مهم، لنفهم أن المبدأ الفيزيائي لعملها يعرفه كل مهندس متخصص في العالم، وتركيبتها ليست سرية، لكن كيف نصنعها، هنا هو التحدي الأكبر الذي ما زالت الصين وروسيا وكثير من الدول المتقدمة أكثر منا بمراحل تجاهد لتتعلمه.
المشكلة ليست في أن يوجد مهندسون وفيزيائيون في بلد ما ليحصل تقدم علمي، المشكلة تكمن في بناء المؤسسات وزرع ثقافة العلم والمنهج العلمي في تنظيم العمل. فقد يكون أكثر المبدعين في شركة إنتل (أول شركات صناعة المعالجات الصغرية في العالم وأشهرها) هم من الهند ومصر وسوريا والجزائر، لكن الأهم من إبداعهم هو المؤسسة والدولة والمنهج والثقافة التي وضعت لهم الأدوات والإمكانيات للإنتاج.
كوننا نشتري العلم، نشتري الموبايل والقطار والكومبيوتر، وجهاز التصوير بالرنين المغناطيسي، ونملك متخصصين يستخدمون ويصلحون لا يعني ذلك أن التقدم العلمي عملية سهلة؛ لكن يفاجئنا مستوى السذاجة الذي زرعه القوميون العرب ثم الإسلاميون السياسيون، وإعلام الطرفين، في عقول الناس وخاصة الشباب، “أن لا مشكلة بذلك، الأهم ألا نكون مثلهم، أي الغرب، فتسير نساؤنا بدون حجاب، ونرى الخمر في المتاجر، فيوم ننتصر عليهم، بالسلاح الذي نشتريه منهم بعد أن يصنعوه هم لنا، سنصنع موبايلا وكومبيوترا؛ فلنسمع الآن لشيخنا الجليل بعمامته البيضاء او السوداء، ولنقرأ لإمامنا شيخ الإسلام، وننتظر إمامنا الغائب، فكل هذه التقنيات إن هي إلا من ترف الدنيا“.
إنها ثقافة الاستهتار بالعلم والعصر، وهي مرتبطة بثقافة الاستهتار بالحياة، لكن لهذا مقال آخر. الاستهتار بالعلم نراه في مدارسنا وإعلامنا ومجالسنا الاجتماعية ومساجدنا وكنائسنا، والكارثة أن كثيرا ممن يعملون بالعلم ما زالوا لا يجرؤون على المطالبة بحقهم أن يكونوا قبل الشيخ والمسؤول والضابط في مجالس بلادنا بأنواعها، بل وصلت التجارة بالدين والاستهتار بالعلم أن افتتحوا تخصصا غرائبيا سموه المعجزات العلمية في القرآن الكريم، فأقحموا الدين بما لا علاقة له به، واهانوه بكمّ الكذب على العلم والدين. آمن بالله ودينه، لكن لا تسلم عقلك لمن يقرآ لك دينك.
توضيح لا بد منه: الكلام هنا دقيق وواضح عن استغلال الإسلامية السياسية للدين، وسطوة رجال الدين الإسلامي، وليس في الإسلام كدين وموقفه من العلم، فليس للدين موقف من العلم، بل للسلطة ولرجال الدين موقفهم وبالتالي من يحكمون. m