…. / الكاتب : سلامة كيلة
الإقطاع هو النظام الاقتصادي الذي حكم الدولة العربية الإسلامية، حيث كانت ملكية الأرض ومنتوجها أساس الثروة، لكنها اتسمت بسيادة النقد وبالتالي كان للتجارة دور مهم فيها، ولقد اعتمدت التجارة على منتوج الأرض لكن أيضاً على منتوجات الحرف المزدهرة (المنسوجات، الورق، أثاث البيوت…)، كما على العبيد. ولقد شكلت مركزية الدولة مترامية الأطراف سوقاً واسعة لنشوء تجارة متطورة، اعتمدت أيضاً على السوق الدوليّة، ليكون للتجار دور هام في المجتمع، خصوصاً وأنهم امتلكوا الأرض أيضاً، كما أنّ ملاّك الأرض عملوا في التجارة. ولأنّ الدولة كانت تعبّر عن سلطة تحالف الإقطاع/ التجار، فقد كانت وسيلة إثراء هذا التحالف من خلال أعطيات الدولة (الإقطاعات)، ونهب مداخيل الدولة (الخراج)، لتتشكّل فئات على قدر كبير من الثراء. ويمكن أن نقول إنّ اندماجاً واضحاً بين هذه الفئات التي شكلت طبقة الملاّك الكبار، والتجّار الكبار، وبين السلطة ذاتها قد تحقّق، لأنّ هذه الفئات كانت تتبوّأ مراكز هامّة في السلطة (الوزير الأوّل، الولاة، القضاة، الكتبة، جباة الخراج)، ولأنّ تبوّأ مراكز في السلطة كان يسمح بتكوّن أصحاب الثروة، بالاستفادة من مداخيل الدولة والأملاك (الأراضي) التي تدخل بيت المال لسبب من الأسباب، أو نتيجة أن المركز كان يسمح بتسهيل النشاط التجاري لهؤلاء الأشخاص، منها مثلاً، غير الأراضي التي يوزعها الخليفة (الإقطاعات) والأموال التي يُنعم بها، الأموال التي كان يحصّلها جباة الخراج، بعد أن أصبحت جباية الخراج تضمّن تضميناً، حيث يدفع الجابي مبلغاً محدداً ليسترده أضعافاً مضاعفة، وهو ما أسمي بعد ذلك إقطاع الخراج. ورغم أن ملاّك الأرض طبقة واسعة، مختلفة الدرجات، وأنّ التجار طبقة واسعة أيضاً، ومختلفة الدرجات كذلك، فإنّ الفئة العليا من هذه وتلك كانت هي السلطة، لأنها كانت تشكّل الجهاز الإداريّ للدولة. وكانت سلطة الدولة تستخدم من أجل، ليس إثراء هؤلاء فقط، بل كذلك نهب الفئات الأخرى من ملاّك الأرض والتجار من خلال نظام المصادرة الذي كان يتبعه الخلفاء من أجل إضعاف خصومهم وتقوية أعوانهم.
هذا التكوين الاقتصادي الاجتماعي للسلطة تطابق معه شكل محدّد للسلطة ذاتها، أي للنظام السياسي الذي عبّر عن هذا التكوين ودافع عنه، وأعاد إنتاجه، قام على أساس اختزال السلطة كلها في الحاكم (الخليفة) دون وجود أية هيئة خاصة، واضحة المعالم، لأنه كان المعني في تعيين المسؤولين (الوزير، قاضي القضاة، جابي الخراج، الكاتب، الولاة، صاحب الشرطة، قادة الجيوش) والذين كانوا محطّ محاسبته وحده، كما أنه كان المعنيّ بصرف الأموال بالطريقة التي يراها، وفي المجالات التي يراها أيضاً. وكان هو محدِّد القوانين ومصدر المراسيم. وبالتالي كانت السلطة هي الخليفة، والخليفة هو السلطة، حيث لا وجود للهيئات الحاكمة أو للنظم التي تحكم عمل «مؤسسات» الدولة، رغم أنّ القرآن كان الدستور الذي يحكم عمل الدولة الإسلامية، في المجال السياسيّ كما في المجال الاقتصاديّ وكلّ المجالات الأخرى. والقرآن يشير إلى طبيعة السلطة، وإن بشكل عامّ، ونسجّل هنا أن لا وجود لأية إشارة إلى الهيئات ولا إلى طريقة اختيار الخليفة، ولا من يختاره، ولا كيف، لكنه يؤكد على ضرورة طاعة أولي الأمر.
ورغم أن القرآن يؤكد «والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة، وأمرهم شورى بينهم، ومما رزقناهم ينفقون..” (الشورى 24/38)، فإن معنى الشورى هنا كما ساد منذ البدء هو المشاورة والتشاور، ومصدرها أشار، حيث يقول القرآن «يا أخت هارون ما كان أبوكِ أمرأ سوء وما كانت أمك بغياً، فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً» (مريم 19/28/ 29). ولهذا أيضاً يقول القرآن «فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما» (البقرة 2/233). ونحن نستخدم هنا المنطق الذي اعتمده التفسير والذي يقوم على أساس تفسير القرآن بالقرآن، وبالتالي لا يمكن لنا أن نعرف معنى الشورى إلا بردّها إلى مصدرها، كما هو وارد في القرآن. وهي هنا تعني ـ كما قلنا ـ التشاور والمشاورة.
وهذا المعنى هو الذي قصده الرسول حيث قال «ما ندم من استشار، ولا خاب من استخار وقد أمر الله (تبارك) وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بمشاورة من هو دونه في الرأي (والحزم)، فقال: وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله» ، وقال: «لن يهلك امرؤ بعد مشورة» وقال: «المستشار بالخيار إن شاء قال وإن شاء أمسك “، وأيضاً «المستشار مؤتمن».
ولهذا يكمل القرآن «فبما رحمة من الله لِنتَ ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك، فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكّل على الله إنّ الله يحبّ المتوكّلين»(آل عمران 3/159)، وهذا يوضّح أن المشاورة تعني استمزاج رأي الآخرين فقط، لأنّ النصّ يوضّح الحاجة إلى المشاورة في الأمر، لكنه يخاطب الفرد حينما يتطلب الأمر اتخاذ القرار، فإذا عزمت فتوكل على الله. مما يعني أنّ القرار من حقّ فرد محدّد، والنصّ يخاطب الرسول حيث يفرد له حقّ اتخاذ القرار لكن بعد التشاور.
لكن أيضاً مع ملاحظة: أنّ الدعوة إلى المشاورة غير محدّدة بشكل مَنْ هو المعنيّ بالمشاورة، بل تركت على العموم: «وأمرهم شورى بينهم»، وهي هنا تخصّ عموم المسلمين، لكن دون تحديد الصيغة التي تتمّ فيها المشاورة، حيث لا يعقل أن يشاور وليّ الأمر كلّ المسلمين. طبعاً ربما كان ذلك ممكناً في بداية الدعوة، في المدينة، لكن بعد ذلك غدت المشاورة غير ممكنة، ومادام القرآن لا يحدّد صيغة (هيئة أو شكل محدّد). فقد اعتمد تنفيذها على منطق وليّ الأمر ذاته إن شاء وسعها وإن شاء ضيّقها. لكن ـ في كل الأحوال – كان وليّ الأمر هو صاحب القرار، سواء اتبع آراء مستشاريه أو اتبع رأيه. إنه الشكل المحدّد هنا، قائم على أساس وجود وليّ للأمر، الذي سمّي الخليفة أو أمير المؤمنين، هو صاحب القرار بعد المشاورة، بعد ذلك يصبح وجوب الطاعة أمرا ملزما (فريضة)، حيث يرد في القرآن «فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا»(التغابن 64/16).
وهذه الفكرة تتأكّد في أكثر من آية «قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حُمِلَ وعليكم ما حملّتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين» (النور 24/54). والطاعة فريضة مثل الصلاة والزكاة، «وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم تُرحمون» (النور 24/56). حيث «ومن يطع الرسول فقد أطاع الله» (النساء 4/8)، ويتكرر ذلك في عدد من الآيات (المائدة 5/92، محمد 47/33، التغابن 64/12)، لكن الطاعة تنتقل بعد الرسول إلى أولي الأمر، حيث يؤكد القرآن «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً» (النساء 4/59). وكذلك تردّ المنازعة بعد الرسول إلى أولي الأمر «وإذا جاءهم آمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردوّه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعَلِمه الذين يستنبطون منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً “(النساء 4/83). وهنا تتوضّح الدعوة إلى طاعة الرسول وأولي الأمر من بعده، ويوكل إليه الفصل في الخلافات لأنه صاحب القرار والمرجع بعد الله والرسول، و لقد غدت فقرة «فردوه إلى الله والرسول» تعني بعد وفاة الرسول، القرآن والسنّة ولهذا تأسس منطق القياس. ولا شك أن أمر الطاعة مؤكد عليه في السنة أيضاً حيث نجد أحاديث كثيرة عن الرسول في هذا المعنى.
وهذا المعنى يرد في كتاب الأغاني، حيث يقول بشار بن برد «ولا تجعل الشورى على غضاضة، ولا تشهد الشورى أمراً غير كاتم»، ” قال الأصمعي: فقلت لبشار: إني رأيت رجال الرأي يتعجبون من أبياتك في المشورة، فقال: أما علمت أن المشاور من إحدى الحسنيين: بين صواب يفوز بثمرته، أو خطأ يشارك في مكروهه». وترد في العقد الفريد بمعنى نصح ( ص67)، ولهذا يستخدم كلمة «مشاورة» ، «نشاوره» ، «لا تستشر»، «لا تشاور» ، ويقول: «إن بعض ملوك العجم استشار وزيريه».
إذن، الصيغة الواردة في القرآن وهو يتحدّث في الإطار العام، تقوم على أساس الحاكم/ الفرد. فهو يقول ” إني جاعل في الأرض خليفة “. وإذا كانت هذه الآية قد فُسّرت بأنّ القرآن لم يتكلّم هنا عن ” المُلك ” بل عن آدم المستخلف في الأرض، وبالتالي عن استخلاف البشر في الأرض، فقد كانت آية معتمدة في تكريس تعبير ” خليفة “، وفي تحديد مهماته التي ذهب البعض إلى القول أنها مستمدّة من الله.
وهذا ما جرى تنظيره في كتب الفقه السياسيّ، وفي الأدب السياسيّ عموماً، لتتشكّل نظرية في السلطة تقوم على أساس سلطة الفرد، غير المشارَك من أحد، وغير المحاسَب والمتصرِّف في كل شيء. يقول ابن خلدون «الملك منصب طبيعي للإنسان لأنّا قد بينّا أنّ البشر لا يمكن حياتهم ووجودهم إلا باجتماعهم وتعاونهم على تحصيل قوْتهم وضرورياتهم، وإذا اجتمعوا دعت الضرورة إلى المعاملة واقتضاء الحاجات ومدّ كل واحد منهم يده إلى حاجته… فيقع التنازع المفضي إلى المقاتلة… فاستحال بقاؤهم فوضى دون حاكم يزع بعضهم عن بعض. واحتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع وهو الحاكم عليهم، وهو بمقتضى الطبيعة البشرية الملك القاهر المتحكم ولا بدّ في ذلك من العصبية… وهذا الملك كما تراه منصب شريف تتوجه نحو المطالبات ويحتاج إلى المدافعات ولا يتمّ شيء من ذلك إلا بالعصبيات، كما مرّ، والعصبيات متفاوتة، وكل عصبية فيها تحكمّ وتغلّب على من يليها من قومها وعشيرتها، وليس المُلك لكل عصبية وإنما الملك على الحقيقة لمن يستعبد الرعية ويجبي الأموال ويبعث البعوث ويحمي الثغور ولا تكون فوق يده يد قاهرة، وهذا معنى المُلْك وحقيقته في المشهور…»، ويضيف ابن خلدون ” فحقيقة السلطان أنه المالك للرعية القائم في أمورهم عليهم، فالسلطان من له رعية، والرعية من لها سلطان والصفة التي له من حيث إضافته إليهم هي التي تسمى الملكة وهي كونه يملكهم، فإن كانت هذه الملكة وتوابعها من الجودة بمكانة حصل المقصود من السلطان على أتمّ الوجوه، فإنها إن كانت جميلة صالحة كان ذلك مصلحة لهم، وإن كانت سيئة متعسفة كان ذلك ضرراً عليهم…». ويؤكد «إن حقيقة الخلاقة نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا فصاحب الشرع متصرّف في الأمرين».
ولهذا يفصّل الماوردي مهمات الخليفة، بالتالي:
“1ـ حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة ودحض البدع “.
“2ـ حماية بيضة (جماعة) الإسلام والذبّ عن الحرم ليتصرف الناس في معايشتهم وينتشروا في أسفارهم آمنين على أنفسهم وأموالهم».
3ـ تحصين الثغور.
4ـ «جهاد الكفرة المعاندين للإسلام حتى يُسلموا أو يدخلوا في ذمة المسلمين».
5ـ تنفيذ الأحكام وفضّ الخصومات.
6ـ «إقامة الحدود لتتوقّى المحارم وتصان الأنفس والأموال»
7ـ اختيار الأمناء والأكفاء وتقليد الولايات للثقات.
8ـ «جباية أموال الفيء والصدقات والخراج، على ما أوجبه الشرع نصاً أو اجتهاداً.
9ـ تقدير العطاء وما يستحقه كل واحد من بيت المال.
10ـ مشارفة الأمور العامة بنفسه غير معتمد على ولاته وعماله.
وهذا يوضّح أن الخليفة هو المشرف والمقرِّر في كل شيء، دينيّ أو دنيويّ، إنه ـ بالتالي ـ المطلق، بديلاً عن الله، ويستمد هذه الإطلاقية من المقدّس ذاته. ألم يرد نصاً وجوب طاعته بالترافق مع وجوب طاعة الله والرسول؟ لتتبلور صيغة الحاكم كشخص من نوع خاص مختلف عن الرعيّة وفوقها، ويمتلك قدرات خارقة لا توجد في الرعية، وذي شخصية مقدسة تستفيد من كل صفات الله وكل تميّزه، من أجل تكريس حكمه وتأليه شخصيته. إنه حاكم مطلق إذن، لا حدود لسلطته ولا رادّ لإرادته، ولا معصية له إلا إذا عصا الله، و«السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية». فتكون شخصية الحاكم هي شخصية مستبدة، وهذا ما لاحظه ابن خلدون منذ زمن بعيد، رغم أنه يعتقد أن وجود الحاكم ضرورة تفرضها «الطبيعة البشرية». مما يوضح أن ابن خلدون كان يعتقد أنّ الاستبداد هو تعبير عن منزع فردي، وليس عن حاجة تفرضها المصالح، لهذا كان يبحث عن حاكم عادل.
هذه الصفات للحاكم، جعلت بعض الفقهاء يؤكدون «أن الخلافة تكون عن الله تعالى، وبالتالي فإنّ الخليفة هو خليفة الله. لهذا قال أبو جعفر المنصور في خطبة له في مكة «أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده، وحارسه على ماله أعمل فيه بمشيئته وإرادته، وأعطيه بإذنه، فقد جعلني الله عليه قفلاً، إذا شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وقَسْم أرزاقكم وإذا شاء أن يقفلني عليها أقفلني..». وأكمل الخليفة المهدي فقال: «نحن ـ أهل البيت ـ نجري من أسباب القضايا، وموقع الأمور على سابق من العلم، ومحتوم من الأمر، قد أنبأت به الكتب وتتابعت به الرسل، وقد تناهى ذلك بأجمعه إلينا، وتكامل بحذافيره عندنا، فيه نُدبِّر، وعلى الله نتوكل». وأضاف «إن لله تعالى في كل زمن عِثْرة من رسله، وبقايا من صفوة خلقه، وخبايا لنصرة دينه، يجدِّد حبل الإسلام بدعواهم، ويشيد أركان الدين بنصرتهم، ويتخذهم لأولياء دينه أنصاراً، وعلى إقامة عدله أعواناً يسدّون الخلل ويقيمون الميل، ويدفعون عن الأرض الفساد».
إن تقديس الله والخضوع لمشيئته، ينقلبان هنا إلى تقديس للخليفة وخضوع لمشيئته، ولا غرو في ذلك لأن البشر أوجدوا المقدَّس من أجل تقديس ذواتهم ومصالحهم، وتقديس سطوة القويّ، وغنى الغنيّ، واستبداد المستبد. ولهذا تكلل الحاكم بكل مهابة التقديس، وتصرف في أمور الدين والدنيا نيابة عن المقدّس مؤيَّداً بأيديولوجيا متكاملة تؤكد حقه هذا، وتحرّم الخروج عليه وتدعو المقهورين للصبر (للصبر فقط). أيديولوجيا كان يعمل على إنتاجها بواسطة الكتّاب والفقهاء من أجل أن تعيد إنتاجه، ليتسع الاستبداد، من استبداد الممارسة إلى استبداد الأيديولوجيا. فيتشكّل نظام شموليّ مستبدّ: في الاقتصاد باستبداد أقلية في الثروة ونهب «الرعية»، وفي السياسة بتحكُّم قوى السلطة بالمجتمع، وفي الأيديولوجيا بتنظير كل ذلك النهب، وذلك الجبروت، بل ورسمه في صورة مقدسة.
يقول كتاب اللؤلؤة في السلطان ” السلطان زمام الأمور، ونظام الحقوق، وقوام الحدود، والقطب الذي عليه مدار الدنيا، وهي حمى الله في بلاده، وظلّه الممدود على عباده». ولهذا عنت البيعة للسلطان «العهد على الطاعة، كأنّ المبايع يعاهد أميره على أن يسلّم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر». وتأسست «أيديولوجيا» العلاقة معه، والقائمة على الخضوع و«الدونية»، و«إذا زادك السلطان إكراماً فزده إعظاماً، وإذا جعلك عبدا فاجعله رباً». وفي نفس السياق تحدّدت مخاطبة السلطان، والتزلف إليه «بسحر البيان، الذي يمازج الروح الطافة، ويجري مع النفس رقة». وقال شاعر للرشيد «المديح كله دون قدرك “. وقال آخر «خادمك الذي لا تأخذه فيك لومة لائم». وقال يعقوب بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس للرشيد «يا أمير المؤمنين ومن ذا الذي بلغت به المقدرة أن يسامي مثلك أو يدانيه؟ “. هذه الأيديولوجيا التي كانت تجعل الخليفة في مرتبة فوق البشر، كانت تجعل البشر مرتبة غاية في الانحطاط. فهم رعايا، والرعايا لا يمتلكون أهلية المواطنة وهم كالقطيع الذي يحدد الراعي مصيره، ومصيره عادة هو الذبح والبشر هم ” الغوغاء والدهماء» ، و«أهل الريب» و«الرعاع والفجرة». وإذا كان ابن خلدون وهو يطلق هذه الأحكام يقصد الفئات التي خرجت على السلطان، وقامت بالثورات، فإنّ هؤلاء البشر هم الفقراء المضطهدون.
لكن التعبير ذا الدلالة هو تعبير الرعية الذي يرد في كتب الفقه السياسيّ، وكتب الأدب السياسيّ عموماً لأنه يؤسِّس لعلاقة بين الراعي والرعية مستعارة من الماضي. وهو تشبيه مستعار من العصر القبليّ في مرحلة الانتقال من الحيوانية إلى البشرية. والحاكم هنا يحدِّد للرعية دوراً كما لقطيع الماشية، ولا شك أنّ تحديد صفات الحاكم الواردة سابقاً، تشير إلى ذلك، حيث يكون الحاكم هو المسيّر والمحدِّد والحامي، والناهب خيرات القطيع، وفي الوقت نفسه فالراعي من البشر (العاقل) والقطيع من الحيوان (البهيمية)، وبالتالي فإنّ الحاكم في المستوى العقليّ ـ في مرتبة فوق البشر الآخرين، لأنه خليفة الله، والمقدّس، الآمر الناهي، الجبّار، القهار، المتكبّر…الخ.
لهذا كان النظام استبدادياً فردياً، يدار بإدارة مطلقة. وهذه الصفات هي التي أنتجت في الفقه السياسي فكرة الحاكم العادل، أو المستبدّ العادل ، لكنها فكرة/حلم، أنتجها الاستبداد ذاته، لكنها في كل الأحوال كانت تقوم على الأساس ذاته، إلا وهو بديهية وجود حاكم، وحاكم فرد فقط. وانطلاقاً من ذلك أصبحت كل الاتجاهات المعارضة مدانة شرعاً، وأطلقت عليها أسماء تدل على ذلك، مثل زنادقة وملاحدة، وخوارج ومارقين. أنهم لم يعودوا ذوي رأي مخالف، بل أصبحوا خارجين على الدين، رغم أنّ الاختلاف كان حول القضايا الاجتماعية، في تملك الثروة والتصرّف بها، وفي نهب الرعية وسحقها، لهذا كان يقام عليها الحدّ، وهو القتل، ليصبح المقدَّس هو الحدّ الذي يُفرض على المختلف في مسائل الواقع الاجتماعي.
وإذا درسنا طبيعة النظام السياسيّ الإسلاميّ في سياقه التاريخيّ، نلاحظ أنّ العصور القديمة (عصر القبيلة والعصر الزراعيّ) أسّست لأنظمة تعتمد مبدأ الحاكم/ الفرد. ولا شكّ أنّ تشكُّل الأسرة فرض وجود ربِّ لها، والربّ بمعناه اللغويّ هو الملك والحاكم معاً. ونشأ الوضع ذاته في مرحلة انتقال القطيع الحيوانيّ إلى قطيع بشريّ، في سياق ارتقاء البشر، حيث أصبح للقطيع الجديد ربٌّ. لهذا نجد القبيلة محكومة من فرد، سواء امتلك وضعه هذا بالوراثة أو بالسنّ. وحين تشكّلت الدولة، تكرّس المبدأ ذاته. وهذا ما اعتبره ابن خلدون كمبدأ «طبيعيّ للاجتماع الإنسانيّ». لهذا تمركزت السلطة منذ البدء بيد الحاكم، إلى حدَّ أن السلطة كانت تعني الحاكم فقط، أما الولاة والقضاة والكهنة وقادة الجيوش والجباة، فكانوا جميعاً موظفين لديه، كما كان الحاكم في الإمبراطوريات الأولى (البابلية والفرعونية وربما الساسانية..) يمتلك حتى الأرض، أو القسم الأعظم منها، وكان ينظر إليه كإله في هذه الإمبراطوريات، وكذلك في الفترة الأولى من الإمبراطورية الرومانية، لكن بعد انتصار الأديان وتحوّلها إلى قوة، أصبح الحاكم خليفة الله، وظلّ الله، والحاكم بأمر الله، وبالتالي يمكن أن نقول إنّ انتصار الله على الأصنام (الآلهة) عنى هزيمة فكرة الحاكم الإله، وإحلال فكرة الاستخلاف تلك.
وفكرة الحاكم/ الملك هذه التي كانت أساس السلطة في الإمبراطوريات البابلية، الفرعونية، اليونانية الرومانية، البيزنطية و الساسانية، وردت في القرآن في الآيات التي تناولت التاريخ السابق للإسلام، وخصوصاً المرحلة الفرعونية لارتباطها باليهود واليهودية. ولهذا نجد أن كلمة الملك تتردد في العديد من الآيات لتؤكّد شكل السلطة هذا.
ولا شكّ أنّ النمط الزراعيّ الذي تأسست على ضوئه هذه الإمبراطوريات، كان يؤسّس لعلاقة القطيع. حيث ينوب فرد عن المجموع في السياسة، لتمارس الرعية نشاطها الاقتصاديّ، خاضعة خانعة ومنقادة له. وفي كل الأحوال كان هذا الشكل للنظام السياسيّ تعميم للتكوين الاجتماعيّ المتشكل في القبيلة، على مستوى شعب معيّن، حيث اندمجت مجموعات من القبائل والأقوام. لكن السلطة، وهي الشكل الجديد في مرحلة تشكُّل الدولة كانت تحتاج إلى مساعدين، مما أوجد فئة واسعة من الموظفين العاملين لدى السلطان، والخاضعين لقراراته، ولمجمل سياساته، وحتى لمشيئته. هذا من حيث الشكل إذا ما تتبعنا نمط السلطة منذ المرحلة المشاعية وسيادة التكوين القبليّ إلى حين تشكُّل الدولة في مجتمع زراعيّ. بمعنى أن تشكل السلطة كسلطة بدأ منذ أصبح الإنسان عاقلاً، وتمثّل ذلك في تشكُّل سلطة «مزدوجة» لكن متكاملة، ونقصد سلطة القبيلة لمجموعة من البشر متّحدة، تمثّلت في زعيم القبيلة وسلطة الأسرة، التي تمثّلت في رب الأسرة. وإذا كانت سلطة زعيم القبيلة استمرّت عقوداً بعد تشكُّل الدولة، فلازالت سلطة ربّ الأسرة مستمرّة في المجتمعات الزراعية. وإن كان انتصار الرأسمالية قد أنهى الشكل القديم لها وأوجد نمطاً آخر. لكن تشكُّل الدولة منذ تشكل المجتمع الطبقيّ، نقل هذه الصيغة للسلطة ـ مطوّرة أو محوّرة ـ إلى الدولة ذاتها فغدا لها ربٌّ، هو مالك الأمور كلها. بمعنى أنّ سلطة الفرد/ الحاكم هي التي استمرّت دون وجود لرابطة الدم التي كانت تجمع زعيم القبيلة وقبيلته. مما جعل للسلطة معنى أكثر استبدادية وللاستغلال معنى أكثر وحشية، لأنّ السلطة غدت سلطة طبقة في مواجهة طبقات أخرى لأنّها أصبحت مجال إثراء على حساب الطبقات الأخرى، ووسيلة الحفاظ على الثروة المتمركزة في حوزة الطبقة المسيطرة.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل إنّ المسألة في تشكُّل هذا النمط من السلطة، هي مسألة انتقال شكل سابق لتشكل الدولة، إلى الدولة المتشكلة؟
المسألة ليست شكلية على الإطلاق، بل إنّ النمط الزراعيّ (نمط الإنتاج القائم على أساس ملكية الأرض) كان يفرض تشكّل دولة مركزية، مفرطة المركزية، وهذا ما أُسمي بالاستبداد الآسيويّ، رغم أن نمط الدولة المفرطة في مركزيتها هو نمط عالميّ، وكما أشرنا سابقاً كان أساس كلّ الإمبراطوريات القديمة (الشرقية والغربية من الصين إلى فرنسا، ومن روسيا إلى العرب..). إذن الاستبداد القائم على أساس تشكُّل دولة مفرطة التمركز ومقادة من حاكم /فرد هو سمة كلّ المجتمعات الزراعية، لأنّ الطبقة ـ كما يبدوـ لم تكن لِتتشكّل وتصبح طبقة مسيطرة دون عون الدولة، لهذا قلنا منذ البدء أن تداخلاً واضحاً اعترى العلاقة بين الطبقة الإقطاعية/ التجارية والسلطة، واعتبرنا أنه يمكن لنا تلخيص المسألة بالقول بالطبقة/ السلطة، لكن من خلال مركزية دور الحاكم الفرد. ليتحدَّد الدور السياسيّ بالخليفة (ونقصد هنا دور الحاكم بشمولية سلطته )، ودور باقي الطبقة بالوظائف الإدارية، وإن كان كل ذلك لا يعني تماماً استنفاد الطبقة بالسلطة، بل إنّ منها من هو على هامشها (من الحاشية والأتباع) أو متمرِّداً عليها إلى الحدّ الذي يمكن له في لحظة أن يستقيل عنها ليشكَّل إمارة خاصة به. وإذا كانت المركزة ضرورية في بداية تشكُّل الدولة، من أجل تدمير النزعات القبلية النزّاعة إلى «الاستقلال» والحفاظ على سلطة القبيلة فقط ( من هنا كان تشكُّل الدولة يمثل خطوة تقدّمية هائلة في صيرورة الارتقاء البشريّ)، فقد غدت تخدم استبداد طبقة الملاّك (والأغنياء عموماً) للحفاظ على أملاكها وثرواتها، ومراكمتها، وأصبح الصراع بين أطراف هذه الطبقة يتمحور حول نهب الثروة، ومركزتها في أيدي فئة على حساب فئات أخرى. وكانت السلطة وسيلة فئة لإفقار تلك الفئات (وهو ما أسمي في الدولة العربية الإسلامية، الصراع على توزيع الفيء).
إنّ تطور المجتمعات الذي فرض الانتقال إلى الزراعة وتشكُّل الملكية الخاصة، فرض تشكُّل طبقة مالكة كانت بحاجة إلى سلطة في مجتمع موحّد، من أجل استقرار ملكيتها وضمان مقدرتها على استغلال الطبقات الأخرى، وهذا هو أساس تشكّل الدولة. ولتحقّق ذلك كان التطوّر يدفع إلى إبداع قوة موحدة، فوق البشر، وذي قدرات «خارقة» تُخضِع البشر لوحدة ضرورية، فأوجد التجريد النظريّ للعقل البشريّ فكرة الله الذي تجسدّ واقعياً في صيغة الحاكم/ السلطة. ونلاحظ أنه قبل نشوء الأديان، ومن ثمّ قبل انتصارها، كان الحاكم يضفي على ذاته تلك الصفات فوق البشرية، وكما أشرنا سابقاً أصبح بعد انتصار المسيحية والإسلام يعتبر أنه خليفة الله، وظل الله، والحاكم بأمر الله. وأصبح الدين هو أيديولوجيا السلطة، لتضفي هذه الأيديولوجيا على الحاكم طابع القداسة، وتؤكّد خضوع الرعية خضوعاً شرعياً (مطلقاً). لهذا كان الفرد مملوكاً في المستوى السياسيّ مُلْكاً مطلقاً للحاكم/ الفرد. فهو محكوم فقط، ولا حقوق له في اختيار الحاكم، أو في إبداء الرأي في سياسته، ولا في أيّ شأن من شؤون الحكم، هذه المسائل التي انحصرت في فئة قليلة، هي الطبقة المسيطرة، التي أسميت في الفقه السياسيّ الإسلاميّ أهل الحلّ والعقد ، وكانت تعني في الدولة الأموية بني أمية، وفي الدولة العباسيّة، العباسيين فقط، إضافة إلى بعض قادة الجيوش المالكة. لكن كان الحاكم هو السلطة كما أشرنا، ولم يكن دور أهل الحلّ والعقد سوى المشورة والبيعة لولي العهد، أو للخليفة الجديد، إضافة إلى أنّ هذا التعبير، ظلّ هلامياً، وفي أحيان كثيرة وهمياً، وربما كان فكرةً تناولها الفقه السياسيّ، دون أن تكون فكرة واقعية.
الحاكم، إذن، هو السلطة. هذا ملخّص النظام السياسيّ في المجتمع الزراعيّ، وهو السلطة المطلقة المؤسسة نظرياً في فكرة مطلقة، هي فكرة الله/ الذات، القائمة فوق الموضوع والمحدِّدة لقسماته، ومساره، وكل تفاصيله. وإذا كان الله فكرة مجرّدة، فإنّ الحاكم هو هذه الذات المحدِّدة للواقع، والمؤثرة في مساراته، وهو بالاستناد إلى فكرة الله، يضفي على نفسه صفة القداسة، لهذا هو يحكم دون قانون، لأنه يحكم وفق «القانون الإلهيّ» الذي يتمثل في إرادته، بمعنى أنّ إرادته هي القانون، الذي يحكم البشر والاقتصاد والحرب والسياسة والأخلاق، وكذلك الدين. وإرادته مستمدة من الله.
وبالتالي فإنّ غياب القانون هو سمة تلك الإمبراطوريات. ونحن نقصد هنا، بالقانون، القانون الخاصّ بالنظام السياسيّ والحقوق، لأنّ قضايا الأسرة والملكية والقضايا المجتمعية الخاصة (المعاملات) كانت محدَّدة في قوانين (الفقه في الإسلام). وإذا كان الفقه السياسيّ في الإسلام قد تناول مسألة الخلافة، وصفات الخليفة ومن يختاره ، وولاية العهد، ومهام الخليفة، فقد كانت الخلافة وراثية، اتخذت صيغة تعيين الخليفة ولياً لعهده، يقوم مقامه حالما يتوفّى، وأصبحت البيعة ممارسة روتينية لكنها قسرية، يقوم بها موظفو السلطة وفقهاؤها وكتّابها، وقادة الجيوش، لكنه كان يقرّر الدور المطلق للخليفة وحقّه في اختيار وليّ عهده، وتعيين الولاة وقادة الجيوش ولجباة والقضاة… الخ، كما كان يقرّر أنه صاحب القرار، ومحدّد القوانين ومقرّر السياسة والحرب، ومجالات صرف الأموال، وحجم الضرائب، وكذلك كان يقرّر وجوب طاعة الرعية له والصبّر على ظلمه، وعدم الخروج عليه. وبالتالي كان الاختلاف جناية لأنها من قبيل الخروج على الحاكم، ولأنّ الرعية لا رأي لها، لأنّ الرأي لأصحاب الرأي وهم السلطة.
الاستبداد إذن، هو إخضاع البشر لقوة قاهرة، هي قوة الحاكم، والمستمدَّة من القوة الفعلية التي يؤسسها بالاستناد إلى تملكه الثروة، ونهبه البشر أنفسهم، وتشكيله منهم قوة قمع تدافع عنه، وتخضعهم، والمستمدة ـ كذلك – من قوة الأيديولوجيا المحوّلة إياه إلى مقدّس، إلى ربٍّ فوق البشر، وتكريسه هذه الفكرة في وعي البشر أنفسهم بالقوة أيضاً، والهدف هو تحويل البشر إلى قطيع يُسيّر كما يشتهي الحاكم، ويعمل من أجل أن يثري الحاكم. ويرضى بالظلم والاضطهاد. وإن تمرّد فيعلن بأنه زنديق ملحّد، فاسق، و خارج عن الدين و”الجماعة “، ليحلّ ذبحه.
والحاكم هنا يرسم نفسه حاكماً مطلقاً مدى الحياة، وباستمرار قداسته عن طريق توريث الحكم لأولاده. لتظل السلطة منحصرة في سلالة واحدة، تمارس وفق أساليب محدّدة استبدادية، وتعلن نفسها كسلالة مقدسة، فوق البشر، ويحقّ لها إخضاع البشر، ونهبهم وحكمهم.
العصر الزراعي، إذن، عصر استبداد، عصر الحاكم المطلق والرعية- القطيع، وليكون الاختلاف زندقة والحاد ومروق. إنه الشكل المجتمعيّ للعصر الحيوانيّ، عصر القطيع، مؤسَّس في نظام سياسيّ، وقد عمّم بكل القداسة الموسوم بها الله. وهو نظام حدَّي يقوم على ثنائيات: خير /شر، مؤمن/ملحد، آمر/ مطيع، وبالتالي حاكم/ رعية. وفي هذه الحديّة تظهر فظاظة العصر الحيوانيّ. وهو عصر «مؤنسن» لأنه عصر ترويض الإنسان، لكنّه في كلّ الأحوال كان دموياً لأنّ الأنسنة كانت تتحقّق بالقوّة الغاشمة. وطابعه يبدو لنا اليوم هكذا، لأنّ التأنسن تعمّق، وأصبح سمة هذا العصر الذي نعيشه. وبالتالي فنحن نصدر أحكامناً انطلاقاً من مفاهيمنا الحاضرة، التي هي تعبير عن «رقيّ» تطور المجتمعات، لأنّ بشر ذلك العصر، لم يروا في السلطة سوى الحاكم المطلق، حتى الحركات التي دعت إلى صيغة مختلفة إلى حدٍّ ما (مثل الخوارج) أسست لسلطة حاكم/ فرد، ولحكم مطلق. وهذه الصيغة حكمت كل قوى المعارضة (الشيعة، الإسماعيلية…) وربما تمظهر الاختلاف في عدل ذلك الحاكم المطلق، وفي مدى مشاورته وفي شمول المشاوَرين، رغم أنّ كل هذه القوى حينما حكمت مارس حكّامها وفق الأساليب ذاتها (الفاطميون والبويهيون مثلاً ).
لهذا قيل إنّ هذه المجتمعات لم تعرف شكل الهيئات والمؤسسات والقانون. هذه الصيغ للنظام السياسيّ التي تبلورت بعد انتصار الرأسمالية. لكنّ هذه المسألة لا تلغي أنّ النظام السياسيّ في المجتمعات الزراعية كان استبدادياً، لأنّ الوعي باستبداديته تبلور آنذاك، لهذا نجد ابن خلدون يتحدث عن الاستبداد، ونراه يسِم الأنظمة التي نشأت بعد العصر الراشدي بـ«المُلْك»، وهو هنا يجرّدها من معنى الخلافة الملازم للعدل ، لكن ـ وبغياب ـ الوعي بأهمية المؤسسات القانونية ـ كان البديل هو الحاكم العادل، وبالتالي عنى الاستبداد نهب الحاكم للأموال واستئثاره بها، وظلمه الرعية وبطشه لها. ولا شك أنّ هذه سمات للاستبداد، لكنّ تهميش البشر واعتبارهم رعايا لا حقّ لهم في تقرير نظام الحكم وفي اختيار السلطة، وتغييب القانون سمات أخرى، لا يمكن لنا اليوم وعي الاستبداد دون وعيها. ولهذا غدت نظرتنا لاستبداد القرون الوسطى أعمق وأشمل، رغم معرفتنا أن تلك البنية الاستبدادية مطابقة للمجتمعات الزراعية السابقة للرأسمالية، وأنّ مستوى التطوّر الحضاريّ العام لم يكن يسمح بوعي الاستبداد إلا ضمن الحدود التي لاحظناها سابقاً.
هذا الوعي الأشمل للاستبداد، بدأ منذ عصر النهضة العربيّ، وهو ما نلاحظه عند عبد الرحمن الكواكبي مثلاً، الذي استند إلى نتاج الفكر الأوروبيّ الحديث، وهو يعيد إنتاج الوعي بالاستبداد، في صيغة تجاوزت صيغة ابن خلدون، لتطال كل زوايا الاستبداد بما فيها الاستبداد الديني. لتكون الدعوة ليس إلى حاكم عادل، بل إلى نظام جديد، يستند إلى القانون، وينطلق من إرادة الشعب، كما حدث في أروبا الرأسمالية.