الكاتب : د. كمال اللبواني
رغم أن العامة هي من تصنع التاريخ بكدها ودمائها ، لكنه يعتبر سجل الخاصة التي تقود وتتزعم وتستثمر جهودهم ، وكل دولة ستعتمد على هذه الخاصة وتبني شبكة علاقات معها لتحكم العامة ، وبسبب طبيعة الدولة القهرية السلطانية أو دولة الاحتلال يفترض أن تكون هذه الخاصة منحازة للسلطة تشاطرها المنافع وليس العامة التي يقع عليها العبء والاضطهاد … وعندما نتحدث عن تاريخ دمشق فنحن نقصد تاريخ الخاصة والزعامات التي حكمتها وليس العامة التي تشبه أي عامة وإن كانت تتأثر بثقافة الخاصة وتدين بتقاليدها وقيمها … فالناس كما يقال على دين ملوكهم .
يحق لكل شعب أن يفتخر بتاريخه بشكل موضوعي وعقلاني ، أما المبالغة والانتقائية في ذلك ، فتعوض عن نقص عوامل الفخر الطبيعية ، لكن باب الحارة الذي يدغدغ مشاعر السوريين الذين يحنون لوطنهم يرسم صورة معكوسة عن الواقع تساهم في تضليل الرأي العام وحرمانه من إدراك عناصر تخلفه وأسباب ضعف الروابط الوطنية فيه ، التي نشهدها أخيرا كحرب أهلية في منتهى الوحشية ، فعنتريات ووطنجيات باب الحارة تحاول أن توحي بوجود وعي ونضوج اجتماعي ووطني متقدم في زعامات دمشق وحواريها ، بهدف إخفاء عناصر الاستبداد و الفشل الوطني المتراكمة تاريخيا من دون انقطاع ، والتي لا يبدو الحال الذي نحن عليه خارجا عنها بل نتيجة لها وفي سياقها ذاته .
الحقيقة المرة أن ثقافة الحارات الدمشقية كانت دوما في موقع الخانع الراضخ لأي سلطة ( أخي مادخلنا ، يلي بيتجوز أمي بقللوا عمي ) بعكس مراجلهم في المسلسل ، الذي يتم التلاعب بقصته ليغطي على بقائها المشين في حضن النظام ويحوله لمفخرة ( نافيا عنها صفة الجبن ، ومظهرا صفة الوطنية التي دفعت دمشق للوقوف بجانب النظام الوطني ضد المؤامرة عليه ) ، تماما كما كانت هزلية دريد لحام تتظاهر بالنقد السياسي للنظام لكنها فعليا تحول المأساة لمهزلة تسخر وتستخف مما يجب أن نبكي عليه ، فتضحكنا قليلا لكي تبكينا كثيرا وطويلا (دموعا ودما وحسرة)، عندما سيوصلنا استهتارنا الكوميدي بتردي أحوالنا وفسادها أمورنا إلى تراجيديا دموية مؤلمة ندفع ثمنها جميعا كعامة من أعز ما نملك بل كل ما نملك ، ثم وبعد انقلاب الكوميديا المسرحية لتراجيديا واقعية تظاهرت كجثث محترقة في الشوارع ، يسارع دريد لحام للعودة لموقعه الطبيعي في السلطة بعد أن خدم ضمن جهاز التضليل والتخدير ليعلن عن نفسه كشريك بل متواطئ مع القتلة وشبيحا كأي شبيح ( فعلى ماذا بنى نقده الساخر وأي موقف انطلق منه ) الطبيعي أن ينتهي ذلك النقد بالثورة والطبيعي بالمنتقد أن يؤيد الثورة أو على الأقل لا يعاديها !!!.
دور الاعلام المضلل والمنابر الكاذبة لم ينته بسخرية دريد من الشعب السوري وتخديره ، بل امتد لمسلسلات المراجل الوطنية الكاذبة ، لأن الواقع يقول أن سكان مدينة دمشق مايزالوا يخدمون النظام ويقدمون له أبناءهم وأموالهم بخنوع عن ذل وهم صاغرون ، يغطي على ذلك الواقع المر والمعيب ادعاء البطولات والمجد والثورة في زمن وهمي غابر ، فهم لم يشاركوا في الثورة الحقيقية عندما اندلعت في ريفهم ، ولم يغيروا بهذا السلوك تاريخهم ولم يناقضوه … عبر التاريخ كانوا قد أدمنوا الخنوع السياسي وسلموا لكل محتل وغاصب ومستبد و طاغية .. دمشق بقيادة خاصتها التجارية لم تسفك دما في تاريخها دفاعا عن أي شيء أو ضد أي معتد ، دمشق مدينة حرفية تجارية ترى في السوق والمال آلية كافية وبديلة عن القتال والحرب والرجولة والدين والجهاد والقيم والوطن والحرية والكرامة ( دينكم ديناركم ، معبودكم تحت قدمي هذا ) … فمن أين هبطت علينا هذه المسلسلات بتلك الحكايات التي تعاكس الواقع والتاريخ ، وتغطي على تعاون حقيقي بين خاصة دمشق مع الفرنسي ضد ابن البلد ، والوشاية بالثوار تماما كما تفعل اليوم ، بالتخلي عن داريا وحرستا وحتى كفر سوسة والمزة ، ناهيك عن درعا وحمص حتى لا نقول حلب .
يقدم باب الحارة الشخصيات الأسطورية الدمشقية من زعيم وعكيد وأبضاي وشيخ وتاجر ( وأغلبهم تاريخيا كانوا عسسا وخدما للنظام الحاكم أي للسلطان وللاحتلال والاستعمار واليوم لأجهزة الأمن والروس والإيرانيون والحبل على الجرار ) ، ويرسم شخصياتهم ليجعلهم يتصفون بوعي وطني وقدرات تنظيمية عجائبية والتحام مع العامة ، ويقدم أبطالا متنورين متميزين شجعان ، مع أنهم يعيشون في حارات مغلقة مليئة بالجهل والتخلف والتنافس غير الشريف والأنانية والتحاسد والكيد ، والتآمر والخبث والدسائس والنميمة ، ويطبقون تقاليد مضحكة بشكلياتها الخرقاء ( شوارب ) ، ومبكية بمقدار المراقبة والكبت والقهر الذي يمارسه الكل على الكل ، خاصة الذي يلحق بالمرأة ، فالمرأة التي يمنع رؤية وجهها في الحارة المنغلقة المكتظة بقصص المجون المستور ، تعمل هذه المرأة خارجها في الحقل وسط الرجال في الريف ، ولا تقل شرفا وشهامة ودينا ومروءة بل تزيدها بكثير . ( ونساء المسلمين الأوائل لم تحتجب الرجال وتسجن نفسها في البيوت ، ولم يربي الصحابة شواربهم ويعنطزوها بل قصوها ، فتخلف عادات الحارة الدمشقية وتعقيداتها ليس تدينا بل تعفننا )
… خاصة دمشق لم تكن وطنية أو تخاف الله في تجارتها ونسبة ربحها ، بل كانت تشكل حالة منغلقة أنانية متقوقعه منقطعة عن الوطن ، بل حتى عن ريفها الذي يتناقض معها في كل شيء ، وتسخر منه وتستغله وتغشه وتحتال عليه في تجارتها معه ، و جل فخر دمشق ومراجلها يقوم به طفارها الهاربين للريف، الذي كان على الدوام مصدر عزتها ومنعتها وموضوع احتقارها بذات الوقت ( فلح ) ، الحارة ذات الزواريب الموبوءة المنغلقة ببابها يتحكم بها خاصتها كأي مستبد ، تعكس صورة دولتها وعقلها الحقيقية المعتمة والأنانية ، أما شوارب وكلمات الزعيم الأبضاي باللهجة الدمشقية فتحمل في لحنها معاني التفاخر الأجوف وفي نبرتها السخرية من المستمع وابطان خداعه ، و الشوارب التي تحظى بتقديس خاص فهي بديل الرجولة وعلامتها الوحيدة .