…. / الكاتب : نادر جبلي
عند مدخل قصر العدل في العاصمة الأردنية عمان، وبعد خروجه من قاعة المحكمة، حيث كان يُحاكم بتهمة “إثارة النعرات الطائفية”، و”إهانة المعتقد الديني”، تلقى الكاتب والصحافي الأردني، ناهض حتّر، بضع رصاصات في الرأس والرقبة أردته قتيلًا. أما القاتل فإسلامي “متطرف”، كان إماما لمسجد في عمان، وأما السبب، بحسب القاتل، فهو تطاول حتّر على الذات الإلهية عبر نشره، على صفحته الخاصة على الفيسبوك، رسمًا كاريكاتوريًا بعنوان “رب الدواعش” يُظهر الله في وضع مهين، يقف على باب خيمة لأحد نزلاء الجنة من الجهاديين، ويتلقى منه الأوامر.
أثار نشر الرسم إياه موجة غضب واسعة في صفوف الأردنيين الذين رأوا فيه مسًا بالذات الإلهية؛ ما حدا بالسلطات هناك، في محاولة منها لتطويق الأزمة، إلى تحريك دعوى الحق العام ضده، كما قامت، للغرض نفسه، بتوقيفه لمدة أسبوعين.
يحتفظ ناهض حتر بتاريخ صاخب مثير للجدل، وبسجل لا يشرِّف أي مثقف أو عَلماني أو يساري، وهو، للأسف، كان محسوبًا على تلك الفئات الثلاث، فقد كان صاحب فكر عنصري شوفيني تشبيحي من الطراز الرفيع، وقف إلى جانب الطغاة ضد شعوبهم وضحاياهم، ساند النظام السوري وحلفاءه الروس والإيرانيين وحزب الله بكل شراسة، من كتاباته في هذا الشأن “سنواصل مع الأسد؛ حتى لو احترقت المنطقة كلها ودمر عاليها على سافلها”، وحرض على قتل السوريين وتهجيرهم، وعدّ من فر منهم بلا قيمة، وقال في مقالة له: “إن خسارتهم لا تعد نزفًا ديموغرافيًا”. رفض الوجود الفلسطيني في الأردن، ورفض منح الجنسية للفلسطينيين، بحجة مناهضة مشروع “الوطن البديل” الإسرائيلي، ونقل رسائل تهديد من المخابرات السورية إلى سياسيين لبنانيين… والقائمة تطول.
إذن؛ لا شيء في تاريخ الرجل سوى الانتهازية والوضاعة والتشبيح، لكن هل يبرر ذلك اغتياله؟ وهل يبرر للسوريين تأييد ذلك الاغتيال؟
يمكننا، على الصعيد السوري، تمييز ثلاثة مواقف رئيسة من اغتيال حتّر، الأول، هو موقف المبتهجين الشامتين، وهم فئة واسعة جدًا، تضم معظم مؤيدي الثورة، ومعظم المتدينين؛ لأنه بالنسبة لهم تطاول على رب العباد، وكان جزءًا من النظام القاتل، وقتله عمل طيب، وقاتله بطل مغوار، والثاني، هو موقف من أدانوا الاغتيال، وهم عمومًا من يقف إلى جانب النظام، ومن يؤيد حتّر في مواقفه، والثالث هو موقف من أدانوا الاغتيال، على الرغم من اختلافهم مع حتّر في الرأي والموقف، وإدانتهم كانت بسبب تمسكهم بـ “القيم والمبادئ”، وللأسف، فهؤلاء قلّة قليلة.
نلاحظ أولًا أن اغتيال حتّر لم يكن بسبب مواقفه العنصرية والفاشية ضد السوريين والفلسطينيين، ودعمه العلني المطلق لنظام قاتل، ولمعسكرٍ يراه أغلب السنة معسكرًا معاديًا لهم، وموجها ضدهم، وهو معسكر النظام السوري وروسيا وإيران وتوابعها، بل هو اغتيل على خلفية نشر ذلك الرسم الذي عدّه الإسلاميون مساسًا بالذات الإلهية، ولم يشفع له سحبه ذلك الرسم، وقوله: إنه كان يقصد به السخرية من “الدواعش” والجهاديين وليس من الله. إذن؛ كل تاريخ الرجل الحافل بالعنصرية والتشبيح، وكل مواقفه المخزية الداعمة لنظام شرد نصف السوريين ودمر مدنهم، وقتل نصف مليون منهم، لم تحرك مشاعر قتلة حتّر، ولم تستفز نخوتهم، ثم يأتي رسم كارتوني ليفعل ذلك!! لقد عبر الصديق سلام كواكبي -بإيجاز وكفاءة- عن هذه النقطة بقوله: “بئس أمة يحرّكها ما تخال أنه “مسٌ” بالذات الإلهية، ولا يحركها قتل صريح للذات الإنسانية”.
أصل إلى الموضوع الرئيس لهذه المقالة، وهو علاقة القيم والمبادئ بقضية الاغتيال، وأعرف مسبقًا أنني أقول شيئا يصعب قوله في أيام كهذه، أيام الحروب والصراعات الدامية، وأعرف أن قائله يبدو مفصولاً عن الواقع، ويعيش في غير زمانه، لكنني أعتقد جازمًا أنه للسبب نفسه، الذي يجعل من القول أمرًا صعبًا (الحروب والصراعات)، ومن قائله شخصًا طوباويًا، يجب أن نحرص على قوله، بمعنى أن الأوضاع القاسية التي نعيش، هي ما يضفي على الكلام أهمية خاصة واستثنائية.
أقول في مناسبة اغتيال حتّر: إنه علينا التمسك بالمبادئ وإعلاء شأنها والدفاع عنها في كل وقت، وبشكل خاص في هذا الوقت، حيث حجم البؤس والألم يبرر أي شيء، ويضفي الشرعية على كل شيء مهما كان قبيحًا. وأقول: إن التضحية بالمبادئ لا تجوز على أي مذبح كان، وتحت أي عذر كان؛ لأنها صمام أمان رئيس، يحفظ قدرتنا على النهوض مجددًا، مهما ساءت أوضاعنا وتردّت أحوالنا.
تأييدنا لقتل حتّر بالطريقة التي تم بها، يجعلنا نُضحّي بما هو أهم وأغلى من حتّر بآلاف المرات، ويجعلنا ننحدر إلى مستوى نظامنا وجلادينا، ونستخدم أدواتهم ونتخلّق بأخلاقهم، فالاغتيال السياسي لإبعاد المختلفين هو من أدوات وأخلاق نظام خرجنا للإطاحة به، وتأييدنا للقتل إياه يجعلنا ننتكس إلى مستوى المجتمعات البدائية، مجتمعات الثأر والانتقام خارج القانون والمؤسسات، ورفض الاغتيال السياسي، وإسكات المختلفين بالقوة، هو مبدأ أساس، علينا الحرص عليه، إذا كنا ننشد دولة حرية وحقوق. ورفض الثأر وأخذ الحقوق باليد خارج القانون والقضاء -أيضَا- مبدأ رئيس، يجب الحرص عليه إذا كنا ننشد دولة قانون ومؤسسات.
لو ابتعدنا عن قضية المبادئ قليلًا، ونظرنا إلى اغتيال الرجل من زاوية الربح والخسارة، فماذا سنجد؟ سنجد أن الحادثة حولت كاتبًا برتبة شبيح إلى بطل وضحية (هناك من قارنه بفرج فودة)، وسنجد أن الحادث أدى إلى انتشار واسع لذلك الرسم الذي نحرص على عدم انتشاره، وسنجد أن الحادث قد أطلق موجة كبيرة من ردات الفعل المسيئة إلى الإسلام والمسلمين، وعزز النظرة السيئة عنهم، وسنجد أن العالم أصبح أكثر ثقة من موقفه المتردد تجاه بقاء الأسد؛ لأن القوى البديلة المتاحة لا تقدم ما يوحي بأنها الأفضل، وتبقى المفاضلة قائمة بين عدميتين: عدمية طغمة الأسد وعدمية “التكفيرين”، إذن القصة برمتها خسارة خالصة للثورة وللشعب السوري، بمعنى أننا نخسر الآن في صراعنا مع الاستبداد، وسنخسر مستقبلًا في استحقاق بناء بلدنا.
نختم بالقول: إن التأسيس لدولة القانون أهم بألف مرة من الفرح بموت شبيح رخيص. والقطع مع ثقافة الاستبداد القائمة على إبعاد المختلفين، قتلًا أو سجنًا، أيضًا أهم بألف مرة من الفرح بموت مثقف انتهازي مرتزق، ومن رأى في اغتيال الرجل عملًا طيبا، دون أن يدرك آثاره الضارة البعيدة، هو شخص لا يرى، ولا يعوّل عليه في بناء وطن قابل للحياة
عن موقع “جيرون|