…….. / الكاتب: بدر الدين عرودكي
لم يقتصر الحل الأمني الذي استخدمه النظام الأسدي وحلفاؤه ضد السوريين؛ من أجل القضاء على ثورتهم منذ ست سنوات على استخدام العنف المطلق عبر قصفهم وتدمير مدنهم وقراهم بكل ضروب الأسلحة فحسب، بل شمل سلاحاً أكثر خبثاً تجسَّد في الاستثمار الأقصى لمختلف الجماعات الإسلامية التي أعلنها منذ البداية عدوة له والتي رفعت منذ البداية، بعد أن تسلل قادتها بالتدريج إلى صفوف الثورة ثم انفصلوا عنها، علماً آخر غير علم الثورة الحقيقي وقدمت نفسها بيقين مطلق ممثلة لله على الأرض بمختلف الصيغ والرايات والشعارات. كان قد أفرج عن معظم قادتها من سجونه ما إن بدأت المظاهرات السلمية تعمُّ أرجاء سورية كلها مطالبة بسقوطه، في الوقت نفسه الذي كانت وسائل إعلامه الرسمية وسواها من الصحف العاملة تحت إشرافه في لبنان خلاله تتحدث عن إمارات سلفية في مناطق الثورة دون استثناء إلى درجة الحديث عن مثيل قندهار في حمص كما كتبت صحيفة إيرانية الهوى في بيروت!
لم يكن ذلك بالطبع إلا بداية تطبيق الخطة الموازية: القمع بلا هوادة من ناحية ووضع عملية سياسية وإعلامية واسعة المدى موضع التنفيذ ترمي إلى تشويه أصول وأهداف الثورة وعزل الثوار في خانة السلفية الجهادية العميلة بما يسمح للنظام الأسدي في نهاية الأمر من فرض رؤيته على العالم ومساعدة حلفائه السياسيين المباشرين وغير المباشرين على إعادة تسويقه عالمياً باعتباره، على سوئه، الأقلَّ سوءاً.
لم تكن المظاهرات التي انطلقت في شهر آذار 2011 ترفع شعاراً آخر سوى شعار الحرية والكرامة وإسقاط النظام من أجل استعادة الكرامة والحرية المفقودتين، متخذة من علم الاستقلال الذي رفعته رمزها. على أنه ما إن بدأ السلاح يفرض نفسه رداً على عنف النظام الأسدي المتنامي، حتى بدأت رايات وشعارات أخرى تظهر في مقدمة تغطية وسائل الإعلام العربية والأجنبية. عشرات من الجماعات ما لبثت أن تكاثرت في أشهر وصارت مئات تتفاوت في عدد أفرادها وفي قوتها وفي طبيعة مزاعمها، تعلن انتماءها إلى الإسلام وترطن كلها بخطاب ركيك دينياً ولغوياً بما يعكس نمطاً من قصور فكري وعقلي لا يمكن إلا أن يكون نتيجة إعداد وتدريب أو اختيار منهجي من قبل من يقف وراءها لتحقيق الغرض المطلوب من الصورة التي كانت تنتشر كالنار في الهشيم عن “الإسلام الجهادي” الذي “يهدد” سورية اليوم ويفرض إعادة النظر في مواقف الجميع من الثورة السورية.
وحين بدأ السوريون الذين ثاروا من الشباب وممن في عمر آبائهم وربما أجدادهم يقرؤون كتابة أو يستمعون إذاعة إلى بيانات هذه الجماعات التي انتشرت كالفطر في كل مكان من سورية لم يصدقوا، في البدء، ما يصل إلى عيونهم أو آذانهم: إذ أخذت تعابير سبق لهم ــ أحياناً ــ أن قرؤوها في كتبهم الدراسية عن “دار الإسلام” وعن “ديوان الحسبة” وعن “حكم الشرع” و “الحكم بشرع الله” و “القضاء الشرعي”، تبدو حقيقة وواقعاً وكأنها تعود بالناس خمسة عشر قرناً إلى الوراء متناسية ما يعيشونه اليوم أو ما سبق لهم أن عاشوه حتى ولو كانوا في أعماق الريف أو الصحراء. وإلى جانب ذلك، كان الناطقون باسم هذه الجماعات على اختلافها يتناسون عمداً سبب خروج السوريين ضد النظام الأسدي، مثلما يتجاهلون مطالبهم أو طموحاتهم إذا ما حققت الثورة هدفها الرئيس: الديمقراطية التي صرح ذات يوم أحد زعماء إحداها أنه “يضع الديمقراطية تحت أقدامه”، وأن “الإسلام هو الحل الوحيد” وأن “السنَّة” هي الحق، وأنه “لا حكم إلا حكم الله”، وما إلى ذلك من اختصارات تذهل بما تكشف عنه من جهل أو سوء نية أو الأمرين معاً. بدا هؤلاء “القادة” المحاربون وكأنهم “أنبياء” إسلام آخر قادم من أزمنة مضت عقلاً ولغة ومظهراً وسلوكاً، يحملون وكالة ناجزة من الله كي يحكموا وينطقوا باسمه. لا وجود في مفرداته للبشر أو للإنسان الحر، ولا لمن أسند إليه هذه الوكالة الإلهية، ولا من كلفه النطق باسم هذا الإسلام أو باسم نبيه.
خطاب جديد لم تعرف منطقة المشرق العربي من قبل له شبيهاً. فقد سبق مثلاً لسورية وللسوريين أن عرفوا طوال القرن الماضي حركات إسلامية لا تمتّ بصلة لهذه الجماعات المصطنعة، سواء من خلال الجماعات ذات الطابع السياسي كحركة الإخوان المسلمين أو من خلال الجمعيات ذات الطابع الاجتماعي أو التربوي أو الثقافي غير البعيد كلياً عن الهمِّ السياسي كجمعية التمدن الإسلامي أو جمعية الغراء. لكن قادة هذه الحركة كانوا مفكرين أو أكاديميين أو كتاباً أو علماء دين أو سياسيين على درجة عالية من الثقافة والاطلاع فضلاً عن الحنكة والخبرة والتجربة. يمكن أن نذكر منهم معروف الدواليبي الذي كان أستاذاً للقانون في جامعة دمشق ورئيساً للوزراء، ومصطفى الزرقا النائب والأستاذ الجامعي الذي اقترح، بعد اعتماد قانون مدني مترجم ترجمة حرفية عن القانون المدني الفرنسي، مشروعاً لقانون مدني يستمد مواده من الفقه الإسلامي ويستجيب إلى حاجات المجتمع السوري وينسجم مع الأعراف والعادات والتقاليد السائدة في المجتمع السوري، والشيخ عبد الحميد الطباع الذي كان صرَّح بوصفه نائباً في البرلمان عن الكتلة الإسلامية بأنه يؤمِّن فارس الخوري على الأوقاف الإسلامية “أكثر مما نؤمن أنفسنا”، وسواهم من أمثال عصام العطار وجودت سعيد ومصطفى السباعي.
غير أن ورثة هؤلاء اليوم ممن يعتبرون أنفسهم أكثر عقلانية وحداثة في فهم الدين ودوره في الحياة الاجتماعية لاذوا بالصمت ولم يجدوا ما يدلون به حول خطاب هذه الجماعات لا على الصعيد الديني ــ إذ من غير المطلوب الدخول في نقاش لا طائل من ورائه حول مستندات تأويلاتهم الدينية أو فهمهم لدور الدين ــ بل على الأقل على الصعيد السياسي المحض حول دورهم التخريبي المدمر لثورة الشعب السوري. هكذا خلت الساحة السياسية ــ فضلاً عن العسكرية ــ لهذه الجماعات التي كان يغذيها ويساعد على نمو قوتها هنا وهناك كل من كان له مصلحة في فشل الثورة السورية في تحقيق أهدافها الأولى.
لم يقوموا بتفنيد الكذب على الله أولاً مادام لا يستطيع أحد أياً كان أن يزعم النطق باسمه أو حمل وكالة منه. ولا بتفنيد الكذب على التاريخ ثانياً وهو الذي لم يحدثنا عن دعوة محمدية خاضت حرباً لأسباب دينية بل لأسباب سياسية محضة سواء داخل الجزيرة العربية أو خارجها ضد الإمبراطورية الفارسية أو الرومانية. ولا بتفنيد الكذب على البشر، وعلى السوريين أساساً، بزعم القتال من أجل “دولة إسلامية” لم يترك لنا التاريخ، قديمه وحديثه، أثراً لها أو نموذجاً يمكن أن يُحتذى.
هكذا ابتُلِيَ السوريون خلال خمسين عاماً بنظام قمعي ذي طابع مافيوي فثاروا كي يستعيدوا حريتهم وكرامتهم وحقهم في اختيار حكامهم. لكنهم ما لبثوا أن ابتلوا في ثورتهم ، بفعل النظام أولاً، بجماعات من الجهلة والسذج كانوا في استخدامهم للدين، من حيث يدرون أو لا يدرون، إي وهم يكذبون على الله وعلى التاريخ وعلى البشر، يحرِفون الثورة عن طريقها ويشوِّهون الأهداف التي قامت من أجل تحقيقها.